فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ نفْخةٌ واحِدةٌ (13)}
قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات.
وجاز تذكير {نُفِخ} لأن تأنيث النفخة غير حقيقي.
وقيل: إن هذه النفخة هي الأخيرة.
وقال: {نفْخةٌ واحِدةٌ} أي لا تُثنّى.
قال الأخفش: ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل: نفخة.
ويجوز {نفخة} نصبا على المصدر.
وبها قرأ أبو السّمال.
أو يقال: اقتصر على الإخبار عن الفعل كما تقول: ضرب ضربا.
وقال الزجاج: {فيِ الصُّورِ} يقوم مقام ما لم يسم فاعله.
قوله تعالى: {وحُمِلتِ الأرض والجبال}
قراءة العامة بتخفيف الميم؛ أي رفعت من أماكنها.
{فدُكّتا} أي فتتا وكسِرتا.
{دكّة واحِدة} لا يجوز في {دكّة} إلا النصب لارتفاع الضمير في {دُكّتا}.
وقال الفراء: لم يقل فدُكِكْن لأنه جعل الجبال كلّها كالجملة الواحدة، والأرض كالجملة الواحدة.
ومثله: {أنّ السماوات والأرض كانتا رتْقا} [الأنبياء: 30] ولم يقل كنّ.
وهذا الدك كالزلزلة؛ كما قال تعالى: {إِذا زُلْزِلتِ الأرض زِلْزالها} [الزلزلة: 1] وقيل: {دُكّتا} أي بُسِطتا بسطة واحدة؛ ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره.
وقد مضى في سورة (الأعراف) القول فيه.
وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر {وحُمِّلتِ الأرض والجبال} بالتشديد على إسناد الفعل إلى المفعول الثاني.
كأنه في الأصل وحمّلْتُ قُدْرتنا أو ملكا من ملائكتنا الأرض والجبال؛ ثم أسنِد الفعل إلى المفعول الثاني فبُنِي له.
ولوْ جِيء بالمفعول الأول لأسند الفعل إليه؛ فكأنه قال: وحُمِّلت قُدْرتُنا الأرض.
وقد يجوز بناؤه للثاني على وجه القلب فيقال: حُمِّلت الأرضُ الملك؛ كقولك: أُلْبِس زيدٌ الجُبّة، وألْبِست الجبةُ زيدا.
قوله تعالى: {فيوْمئِذٍ وقعتِ الواقعة} أي قامت القيامة.
{وانشقت السماء} أي انصدعت وتفطّرت.
وقيل: تنشق لنزول ما فيها من الملائكة؛ دليله قوله تعالى: {ويوْم تشقّقُ السماء بالغمام ونُزِّل الملائكة تنزِيلا} [الفرقان: 25] وقد تقدم.
{فهِي يوْمئِذٍ واهِيةٌ} أي ضعيفة.
يقال: وهى البناء يهِي وهْيا فهو واهٍ إذا ضعُف جدّا.
ويقال: كلامٌ واهٍ؛ أي ضعيف.
فقيل: إنها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهْي؛ ويكون ذلك لنزول الملائكة كما ذكرنا.
وقيل: لهول يوم القيامة.
وقيل: {واهِيةٌ} أي متخرّقة؛ قاله ابن شجرة.
مأخوذ من قولهم: وهى السقاء إذا تخرّق.
ومن أمثالهم:
خلِّ سبيل من وهى سِقاؤه ** ومن هُرِيق بالفلاة ماؤه

أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه.
{والملك} يعني الملائكة؛ اسم للجنس.
{على أرْجآئِهآ} أي على أطرافها حين تنشق؛ لأن السماء مكانهم؛ عن ابن عباس.
الماوردِيّ: ولعله قول مجاهد وقتادة.
وحكاه الثعلبيّ عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم ينشق منها.
يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها.
وقال سعيد بن جُبير: المعنى والملكُ على حافات الدنيا؛ أي ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها.
وقيل: إذا صارت السماء قِطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها.
وقيل: إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم؛ فينِدُّوا كما تنِدّ الإبل، فلا يأتون قُطْرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاءوا.
وقيل: {على أرْجآئِهآ} ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السّوق إليها، وفي أهل الجنة من التّحية والكرامة.
وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جُبير.
ويدل عليه: {ونُزِّل الملائكة تنزِيلا} وقوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أن تنفُذُواْ مِنْ أقْطارِ السماوات والأرض} [الرحمن: 33] على ما بيناه هناك.
والأرجاء النواحي والأقطار بلغة هذيل، واحدها رجا مقصور، وتثنيته رجوان؛ مثل عصا وعصوان.
قال الشاعر:
فلا يُرْمى بِي الرّجوان أنّي ** أقلُّ القومِ من يُغْنِي مكانِي

ويقال ذلك لحرف البئر والقبر.
قوله تعالى: {ويحْمِلُ عرْش ربِّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانِيةٌ} قال ابن عباس: ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله.
وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاك.
وعن الحسن: الله أعلم كم هم، ثمانية أم ثمانية آلاف.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية» ذكره الثعلبيّ.
وخرّجه الماورديّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحمله اليوم أربعة وهم يوم القيامة ثمانية» وقال العباس بن عبد الملك: هم ثمانية أملاك على صورة الأوعال.
ورواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث: «إن لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثوْر ووجه نسْر وكلّ وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس» ولما أنشد بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم قول أُميّة بن أبي الصّلْت:
رجُلٌ وثوْرٌ تحت رِجل يمينه ** والنّسْرٌ للآخرى وليْثٌ مُرْصدُ

والشمس تطلع كلّ آخر ليلةٍ ** حمراء يُصبح لوْنُها يتورّدُ

ليست بطالعة لهم في رِسْلِها ** إلاّ مُعذّبة وإلاّ تُجْلدُ

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «صدق» في الخبر «أن فوق السماء السابعة ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش».
ذكره القشيريّ وخرّجه الترمذيّ من حديث العباس بن عبد المطلب.
وقد مضى في سورة (البقرة) بكماله.
وذكر نحوه الثعلبيّ ولفْظه.
وفي حديث مرفوع: «أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما للطائر المسرع» وفي تفسير الكلبيّ: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة.
وعنه: ثمانية أجزاء من عشرة أجزاء من الملائكة.
ثم ذكر عدّة الملائكة بما يطول ذكره.
حكى الأوّل عنه الثعلبيّ والثاني القشيريّ.
وقال الماورديّ عن ابن عباس: ثمانية أجزاء من تسعة وهم الكرُوبِيّون.
والمعنى ينزل بالعرش.
ثم إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت، وليس البيت للسكنى، فكذلك العرش.
ومعنى: {فوْقهُمْ} أي فوق رؤوسهم.
قال السُّدِّيّ: العرش تحمله الملائكة الحملة فوقهم ولا يحمل حملة العرش إلا الله.
وقيل: {فوْقهُمْ} أي إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها.
وقيل: {فوْقهُمْ} أي فوق أهل القيامة.
قوله تعالى: {يوْمئِذٍ تُعْرضُون} أي على الله؛ دليله: {وعُرِضُواْ على ربِّك صفّا} [الكهف: 48] وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة.
وروى الحسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُعْرض الناس يوم القيامة ثلاث عرْضات فأما عرْضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذٌ بيمينه وآخذ بشماله» خرجه الترمذيّ قال: ولا يصح مِن قِبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.
{لا تخفى مِنكُمْ خافِيةٌ} أي هو عالم بكل شيء من أعمالكم.
ف {خافِيةٌ} على هذا بمعنى خفِيّة، كانوا يخفونها من أعمالهم؛ قاله ابن شجرة.
وقيل: لا يخفى عليه إنسان؛ أي لا يبقى إنسان لا يحاسب.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: لا يخفى المؤمن من الكافر ولا البرُّ من الفاجر.
وقيل: لا تستتر منكم عوْرةٌ.
كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يُحْشر الناس حفاة عُراة» وقرأ الكوفيون إلا عاصما {لا يخْفى} بالياء؛ لأن تأنيث الخافية غير حقيقي؛ نحو قوله تعالى: {وأخذ الذين ظلمُواْ الصيحة} [هود: 67] واختاره أبو عبيد؛ لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم المؤنث الجارُّ والمجرور. الباقون بالتاء، واختاره أبو حاتم لتأنيث الخافية. اهـ.

.قال الألوسي:

{فإِذا نُفِخ في الصور نفْخةٌ واحدة}
شروع بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى التي عندها خراب العالم كما قال ابن عباس وقال ابن المسيب ومقاتل هي النفخة الآخرة والأول أولى لأنه المناسب لما بعد وإن كانت الواو لا تدل على الترتيب لكن مخالفة الظاهر من غير داع مما لا حاجة إليه والنفخة قال جار الله في حواشي كشافه المرة ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث أنه نفخ فنبه على ذلك بقوله سبحانه: {واحدة} وعن ابن الحاجب أن نفخة لم يوضع للدلالة على الوحدة على حيالها وإنما وضع للدلالة على النفخ والدلالة على الوحدة اتفاقية غير مقصودة وتعقب بأن هذا بعد التسليم لا يضر لأن الكلام في مقتضى المقام لا أصل الوضع وقد تقرر أن الذي سيق له الكلام يجعل معتمدا حتى كان غيره مطروح فالمرة هي المعتمدة نظرا للمقام دون النفخ نفسه وإن كان النظر إلى ظاهر اللفظ يقتضي العكس فافهم وأيا ما كان فإسناد الفعل إلى نفخة ليس من إسناد الفعل إلى المصدر المؤكد كضرب ضرب وإن لم يلاحظ ما بعده من قوله سبحانه: {واحدة} وحسن تذكير الفعل للفصل وكون المرفوع غير حقيقي التأنيث وكونه مصدرا فقد ذكر الجاربردي في (شرح الشافية) أن تأنيثه غير معتبر لتأويله بأن والفعل والمشهور أن واحدة صفة مؤكدة وأطلق عليها بعضهم التوكيد وبعضهم البيان وذكر الطيبي أن التوابع كالبدل وعطف البيان والصفة بيان من وجه للمتبوع عند أرباب المعاني وتمام الكلام في ذلك في المطول وقرأ أبو السمال {نفخة واحدة} بنصبهما على إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل.
{وحُمِلتِ الأرض والجبال} رفعتا من أحيازهما بمجرد القدرة الإلهية من غير واسطة مخلوق أو بتوسط نحو ريح أو ملك قيل أو بتوسط الزلزلة أي بأن يكون لها مدخل في الرفع لا أنها رافعة لهما حاملة إياهما ليقال إنها ليس فيها حمل وإنما هي اضطراب وقيل يجوز أن يخلق الله تعالى من الأجرام العلوية ما فيه قوة جذب الجبال ورفعها عن أماكنها أو أن يكون في الأجرام الموجودة اليوم ما فيه قوة ذلك إلا أن في البين مانعا من الجذب والرفع وأنه يزول بعد فيحصل الرفع وكذا يجوز أن يعتبر مثل ذلك بالنسبة إلى الأرض وأن تكون قوتا الجاذبين مختلفتين فإذا حصل رفع كل إلى غاية يريدها الله تعالى حدث في ذلك الجاذب ما لم يبق معه ذلك الجذب من زوال مسامته ونحوه وحصل بين الجبال والأرض ما يوجب التصادم ويجوز أيضا أن يحدث في الأرض من القوى ما يوجب قذفها للجبال ويحدث للأرض نفسها ما يوجب رفعها عن حيزها وكون القوى منها ما هو متنافر ومنها ما هو متحاب مما لا يكاد ينكر وقيل يمكن أن يكون رفعهما بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب على ما قيل فيها جديدا للأرض فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة ورفع الأرض من حيزها ولا يخفى أن كل هذا على ما فيه لا يحتاج إليه ويكفينا القول بأن الرفع بالقدرة الإلهية التي لا يتعاصاها شيء وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى {وحملت} بتشديد الميم وحمل على التكثير وجوز أن يكون تضعيفا للنقل فيكون {الأرض والجبال} المفعول الأول أقيم مقام الفاعل والمفعول الثاني محذوف أي قدرة أو ريحا أو ملائكة أو يكون المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل والأول محذوف وهو أحد المذكورات {فدُكّتا دكّة واحدة} فضربت الجملتان إثر رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة حتى تفتت وترجع كما قال سبحانه: {كثيبا مهيلا} [المزمل: 14] وقيل تتفرق أجزاؤها كما قال سبحانه: {هباء منبثا} [الواقعة: 6].
وفرقوا بين الدك والدق بان في الأول تفرق الأجزاء وفي الثاني اختلافها وقال بعض الأجلة أصل الدك الضرب على ما ارتفع لينخفض ويلزمه التسوية غالبا فلذا شاع فيها حتى صار حقيقة ومنه أرض دكاء للمتسعة المستوية وبعيرا دك وناقة دكاء إذا ضعفا فلم يرتفع سناماهما واستوت خدجتهما مع ظهريهما فالمراد هاهنا فبسطتا بسطة واحدة وسويتا فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ولعل التفتت مقدمة للتسوية أيضا وقال الراغب الدك الأرض اللينة السهلة وقوله تعالى: {فدكتا} أي جعلتا بمنزلة الأرض اللينة وهذا أيضا يرجع إلى التسوية كما لا يخفى وحكى في (مجمع البيان) أنهما إذا دكتا تتفتت الجبال وتنسفها الريح وتبقى الأرض مستوية وثنى الضمير لإرادة الجملتين كما أشرنا إليه.
{فيوْمئِذٍ} أي فحينئذ على أن المراد باليوم مطلق الوقت وهو هاهنا متسع يقع فيه ما يقع والتنوين عوض عن المضاف إليه أي فيوم إذ نفخ في الصور وكان كيت وكيت {وقعتِ الواقعة} أي قامت القيامة وتفسير الواقعة بصخرة بيت المقدس واقع عن درجة القبول.
{وانشقت السماء} تفطرت وتميز بعضها عن بعض ولعله إشارة إلى ما تضمنه قوله تعالى: {يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} [الفرقان: 25] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال ذلك قوله تعالى: {وفتحت السماء فكانت أبوابا} [النبأ: 19] ولا منافاة بينهما وكذا لا منافاة بين كون الانشقاق لنزول الملائكة وكونه لهول يوم القيامة لأن الأمر قد يكون له علل شتى مثل هذه العلل والمراد بالسماء جنسها وقيل السموات السبع وأيما كان فلا يشترط لصحة الانشقاق كونها أجساما صلبة إذ يتصف بنحو ذلك ما ليس بصلب أيضا فقد وصف البحر بالانفلاق {فهِى} أي السماء {يوْمئِذٍ واهِيةٌ} ضعيفة من وهي الشيء ضعف وتداعى للسقوط وقال ابن شجرة من قولهم وهي السقاء إذا انخرق ومن أمثالهم قول الراجز:
خل سبيل من وهي سقاؤه ** ومن هريق بالفلاة ماؤه

{والملك} أي الجنس المتعارف بالملك وهو أعم من الملائكة عند الزمخشري وجماعة وقد ذكره الجوهري أيضا وقال أبو حيان الملك اسم جنس يراد به الملائكة ولا يظهر أنه أعم من الملائكة وتحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه في (شرح التلخيص) للعلامة الثاني وحواشيه فارجع إن أردت إليه {على أرْجائِها} أي جوابنها جمع رجى بالقصر وهو من ذوات الواو ولذا برزت في التثنية قال الشاعر:
كأن لم ترى قبلي أسيرا مقيدا ** ولا رجلا يرمى به الرجوان

والضمير للسماء والمراد بجوانبها أطرافها التي لم تنشق أخرج ابن المنذر عن ابن جبير والضحاك قال إنهما قالا {والملك على أرجائها} أي على ما لم ينشق منها ولعل ذلك التجاء منهم للأطراف مما داخلهم من ملاحظة عظمة الله عز وجل أو اجتماع هناك للنزول وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع بن أنس قال: {والملك على أرجائها} أي الملائكة على شقها ينظرون إلى شق الأرض وما أتاهم من الفزع والأول أظهر ولعل هذا الانشقاق بعد موت الملائكة عند النفخة الأولى وإحيائهم وهم يحيون قبل الناس كما تقتضيه الأخبار ويجوز أن يكون ذلك بعد النفخة الثانية والناس في المحشر ففي بعض الآثار ما يشعر بانشقاق كل سماء يومئذ ونزول ملائكتها واليوم متسع كما أشرنا إليه وقال الإمام يحتمل أنهم يقفون على الأرجاء لحظة ثم يموتون ويحتمل أن يكون المراد بهم الذين استثناهم الله تعالى في قوله سبحانه: {إلا من شاء الله} [الزمر: 68] وعلى الوجهين ينحل ما يقال الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى: {فصعق من في السموات ومن في الأرض} [الزمر: 68] فكيف يقال إنهم يقفون على أرجاء السماء وفي (أنوار التنزيل) لعل قوله تعالى: {وانشقت السماء} [الحاقة: 16] إلخ تمثيل لخراب العالم بخراب المبنيات وانضواء أهلها إلى أطرافها وإن كان على ظاهره فلعل موت الملائكة إثر ذلك انتهى وأنا لا أقول باحتمال التمثيل وفي (البحر) عن ابن جبير والضحاك أن ضمير {أرجائها} للأرض وإن بعد ذكرها قالا إنهم ينزلون إليها يحفظون أطرافها كما روى أن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ثم ملائكة كل سماء فكلما ند أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها ولعل ما نقلناه عنهما أولى بالاعتماد {ويحْمِلُ عرْش ربّك فوْقهُمْ} أي فوق الملائكة الذين على الأرجاء المدلول عليهم بالملك وقيل فوق العالم كلهم وقيل الضمير يعود على الملائكة الحاملين أي يحمل عرش ربك فوق ظهورهم أو رؤسهم {يوْمئِذٍ ثمانية} والمرجع وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة وفائدة فوقهم الدلالة على أنه ليس محمولا بأيديهم كالمعلق مثلا وأيد هذا واعتبار الظهور بما أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن العباس بن عبد المطلب في حديث «وفوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن ووركهن ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء» والمراد بالأوعال فيه ملائكة على صورة الأوعال كما قال ابن الأثير وغيره وهي جمع وعل بكسر العين تيس الجبل واستدل به على أن المراد ثمانية أشخاص والأخبار الدالة على ذلك كثيرة إلا أن فيها تدافعا من حيث دلالة بعضها على أن بعضهم على صورة الإنسان وبعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر ودلالة بعض آخر على أن لكل واحد منهم أربعة أوجه وجه ثور ووجه نسر ووجه أسد ووجه إنسان وفيه لكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان فعلى وجهه مخافة من أن ينظر إلى العرش فيصعق وأما جناحان فيطير بهما وأبو حيان لم يقل بصحة شيء من ذلك حيث قال ذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا وأخرج عبد بن حميد عن ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية» وأخرج عنه ابن أبي حاتم أنه لم يسم من حملة العرش إلا إسرافيل عليه السلام قال وميكائيل عليه السلام ليس من حملة العرش وعليه فمن زعم أنهما وجبرائيل وعزرائيل عليهم السلام من جملة حملته يلزمه إثبات ذلك بخبر يعول عليه وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وفي خبر عن وهب بن منبه ليس لهم كلام إلا قولهم قدسوا الله القوي الذي ملأت عظمته السموات وأكثر الأخبار في هذا الباب لا يعول عليه وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه قال يقال ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل وأخرج هذا القول ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس وقال الحسن الله تعالى أعلم كم هم أثمانية أصناف أم ثمانية أشخاص وأنت تعلم أن الظاهر المؤيد ببعض الأخبار المصححة أنهم ثمانية أشخاص وأيا كان فالظاهر أن هناك حملا على الحقيقة وإليه ذهب محيي الدين قدس سره قال إن لله تعالى ملائكة يحملون العرش الذي هو السرير على كواهلهم هم اليوم أربعة وغدا يكونون ثمانية لأجل الحمل على أرض المحشر وله قدس سره في الباب الثالث عشر من فتوحاته كلام واسع في حملة العرش لاسيما إلى تفسيره بالملك فليرجع إليه من اتسع كرسي ذهنه لفهم كلامه وجوز أن يكون ذلك تمثيلا لعظمته عز وجل بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام فالمراد تجليه عز وجل بصفة العظمة وجعل العرض في قوله تعالى: {يوْمئِذٍ تُعْرضُون} مجازا عن الحساب والمراد يومئذ تحاسبون لكنه شبه ذلك بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم فعبر عنه به وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» والجملة المعوض عنها التنوين على ما يدل عليه كلامهم {نفخ في الصور} [الحاقة: 13] وجعل {يومئذ تعرضون} بدلا من {فيومئذ} [الحاقة: 15] إلخ وقد سمعت أن الزمان متسع لجميع ما ذكر وغيره وقوله تعالى: {لا تخفى مِنكُمْ خافِيةٌ} حال من مرفوع {تعرضون} أي تعرضون غير خاف عليه عز وجل سر من أسراركم قبل ذلك أيضا وإنما العرض لإفشاء الحال وإقامة الحجة والمبالغة في العدل أو غير خاف يومئذ على الناس كقوله تعالى: {يوم تبلى السرائر} [الطارق: 9] وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش وابن مقسم عن عاصم وغيرهم {لا يخفى} بالياء التحتانية. اهـ.